فصل: قال الصابوني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب في الآيات السابقة:

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ}.
التفسير:
جاءت هذه الآيات الثلاث لتستكمل أدب المعاشرة والمخالطة في المجتمع الإسلامى، بعد أن بينت الآيات السابقة أحكام الاستئذان، والحجاب والتحصن في الزواج.. وكان من تدبير الحكيم العليم في هذا، أنه لم يجىء بهذه الأحكام جميعها في معرض واحد، حتى لا تزحم العقل، وحتى لا يفلت منها شيء في هذا المزدحم.. فهى جميعها دستور متكامل، وعقد منتظم، إن انفرطت حبة منه انفرطت حبّات العقد كلها.
ومن أجل هذا كان هذا الفصل بينها بتلك الآيات، التي عرضت ماللّه سبحانه وتعالى من جلال وقدرة، وأنه سبحانه نور السموات والأرض، وما فيهن، وأن كلّ من في السموات والأرض يسبح بحمده، وأن عالم الأحياء خلق جميعه من ماء، وذلك بقدرة القادر العليم الحكيم.. وأنه كما اختلفت عوالم الأحياء صورا وطبائع، اختلف الناس عقلا وسفها، وإيمانا وضلالا.
فكان فيهم المؤمنون المتقون، وكان منهم الكافرون الجاحدون، وكان فيهم المنافقون، الذين يجمعون بين الكفر والإيمان.
وبعد هذا العرض الممتد المتنوّع، تجىء هذه الآيات الثلاث، لتستوفى أدب المعاشرة والمعايشة، بين الناس والناس.
وفى قوله تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ»- في هذا أمر للمؤمنين- من رجال ونساء أن يلزموا مواليهم الذين تحت أيديهم- من عبيد وإماء- ألا يدخلوا عليهم خلواتهم، إلا بعد إذن.. وذلك في ثلاثة أوقات بينتها الآية كما سنرى.
وكذلك تحمل الآية أمرا إلى البالغين الراشدين- من أحرار الرجال والنساء- ألا يدعوا الصغار- من بنين وبنات- الذين، لم يبلغوا الحلم بعد، ولكنهم يميزون ما للرجل والمرأة، ويعرفون العورة وغير العورة- ألّا يدعوهم يدخلون عليهم في هذه الأوقات الثلاثة إلا بعد استئذان، وإذن.
وهذه الأوقات، قد بينها اللّه سبحانه وتعالى في قوله: {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ}.
ففى هذه الأوقات الثلاثة، يتهيأ الإنسان للراحة والنوم، ويتخفف كثيرا من ملابسه ومن تحفظه في ستر عورته، لأنه على شعور بأنه في خلوة مع نفسه، أو مع زوجه.
ففى هذه الأوقات الثلاثة ينبغى ألا يدخل الموالي- عبيدا أو إماء- على سادتهم، من رجال أو نساء، وكذلك الصغار المميزون من بنين وبنات- لا يدخلون على آبائهم أو أمهاتهم، أو غيرهم، إلا بعد أن يستأذنوا ويؤذن لهم.
وذلك سترا للعورات، وحفظا للحياء، وسدّا لذرائع الفتنة.
وقوله تعالى: {ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ} أي هذه الأوقات، هي أشبه بثلاث عورات لكم، ينبغى أن تصونوا فيها أنفسكم عن أن يدخل عليكم أحد فيها إلا بإذن، حتى أولئك الذين لا تحتشمون لهم، ولا تتحرجون كثيرا منهم، وهم الموالي والصغار.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ}.. أي لا حرج عليكم ولا عليهم، بعد هذه الأوقات الثلاثة، في أن يدخلوا عليكم من غير استئذان.. إذ كان أمركم غالبا في غير تلك الأوقات، أقرب إلى التصوّن والتحفظ.. وفى الاستئذان الملزم للموالى والصغار، في جميع الأوقات، كثير من الحرج، الذي تأباه هذه الشريعة، وتعفى أتباعها منه.
وقوله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ}. جملة حالية. أي لا جناح عليكم ولا عليهم بعد هذه الأوقات الثلاثة وأنتم طوافون بعضكم على بعض.. فهذا شأنكم وشأنهم، بحكم المخالطة والمعاشرة.. ومن هنا رفع عنكم وعنهم الحرج، في غير هذه الأوقات الثلاثة.. فلكم أن تطوفوا عليهم، ولهم أن يطوفوا عليكم من غير استئذان!
وقوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي مثل هذا البيان الجلىّ الواضح، يبين اللّه لكم الآيات، ويجىء بها محكمة، لا تحتاج إلى تأويل، حتى تأخذوا بها، وتستقيموا عليها.. {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بما يصلح حياتكم {حَكِيمٌ} في وصف الدواء لكل داء، يعطى منه بالحكمة، دون إفراط أو تفريط.
قوله تعالى: {وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي أن هؤلاء الأطفال، الذين أذن لهم بالطواف عليكم من غير استئذان في كل وقت، ما عدا هذه الأوقات الثلاثة- هؤلاء الأطفال إذا زايلتهم صفة الطفولة، وبلغوا الحلم، ودخلوا مدخل البالغين- من رجال ونساء- أخذوا بحكمهم، وأصبح لزاما عليهم أن يستأذنوا في جميع الأوقات، لا في هذه الأوقات الثلاثة وحسب.
وفى قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} إشارة إلى أن هذا الأمر وإن كان واضحا، من حيث أن الطفولة هي التي قضت بإعفاء الأطفال من الاستئذان في غير هذه الأوقات الثلاثة، فإذا زايلتهم الطفولة زايلهم حكمها الذي ترتب عليها- إلا أنه يمكن لمتأول أن يتأول الطفولة بأنها البنوّة، ومن ثم فإن أبناء الرجل أو المرأة إذا بلغوا، ظلّ هذا الأعفاء ملازما لهم.. فكان هذا البيان الحكيم، وضعا للأمر في موضعه الصحيح، وقاطعا الطريق على كل تأويل، إذ كان الأمر من عظم الشأن بحيث يجب كشفه وبيانه على هذه الصورة الواضحة، حتى لا يقع فيه لبس أو خفاء.
ولابدّ من أن يقف المرء هنا وقفة متأملة أمام هذا الأدب الإسلامى الرفيع، الذي يضفى على أتباعه سترا جميلا من التصوّن، والتعفف، والحياء، بهذه الحواجز الرقيقة التي لا تشف عما وراءها من عورات، وذلك لا يكون إلا في مجتمع كملت إنسانيته، ورقت مشاعره، فعرف لنفسه قدرها، ولكرامته حقها.
إن الحياء هو لباس الإنسانية التي جمّلها اللّه سبحانه وتعالى به.. ولهذا كان أول ما ظهر على آدم من صفات الإنسان هي ستر عورته، حين ظهرت إرادته بهذا العصيان الذي عصى به ربّه، وأكل من الشجرة التي نهى عن الأكل منها.. إنه هنا كائن ذو إرادة.. إنه إنسان.. ولن يكون إنسانا وهو في هذا العرى الحيواني.. فكان أن نظر آدم وزوجه إلى وجودهما، فرأيا سوءتيهما، وفرض عليهما الحياء أن يسترا ما استحييا منه.. وقد أسعفتهما الحيلة، فطفقا يخصفان عليهما من أوراق الشجر، ما ستر العورة.
هذا هو الإنسان في أصل فطرته.. الحياء أول شعور وجده في كيانه، وستر العورة أول صنيع صنعه ليخرج به عن عالم الحيوان.
ومن أجل هذا كان من آداب الإسلام، هذا الحرص الشديد على الحفاظ على عورات المسلمين، وعلى إيقاظ مشاعر الحياء فيهم، بما أوجب عليهم من أحكام وآداب، في المخالطة والمعاشرة، والاستئذان وستر العورة، حتى يظل ماء الحياء ساريا في كيانهم، تتغذّى منه مشاعرهم، وتسمو به إنسانيتهم.. فإنه لا إنسانية إذا خفّ ماء الحياء فيها.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: «الحياء خير كله» «والحياء شعبة الإيمان» «الحياء من الإيمان».
فأين هذا الأدب الرفيع من تلك الحياة البهيمية التي تعيش فيها أمم تعد في نظر المجتمعات الإنسانية قائمة على قمة الرقىّ، مستولية على زمام المدنية والحضارة؟ ولا تسل عن الأزياء الخليعة التي تشف عما تحتها، وتجسّد ما وراءها.
ولا تقف عند الاختلاط الحيواني بين الرجال والنساء في الأندية والطرقات، والبيوت.. فذلك كله قد صار حياة من حياة تلك المجتمعات، ووضعا مستقرا من أوضاعها.. ولكن الذي يثير العجب والدهش حقا أن يصبح هذا الأسلوب من الحياة دينا يدين به الناس، له فلسفته، وله آدابه وأحكامه.
تجد ذلك في أندية العراة، وفى مجتمع الوجودية والبرجمانية وغيرها.. مما تضج به حياة الغرب.
والعجب، هو أن يكون للفوضى منطق، وأن يكون للعرى أدب!
قوله تعالى: {وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
وهذه الآيات استثناء أيضا من عموم قوله تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ الآية}.
فالقواعد من النساء، وهن المتقدمات في السنّ، اللاتي لا إربة لهن في الرجال ولا أرب للرجال فيهن- هنّ أشبه بالأطفال الذين لم يبلغوا الحلم.. ومن هنا كانت نظرة الشريعة إليهن، التخفيف مما أخذ به النساء عموما، من ألا يبدين زينتهن، ولا يكشفن شيئا من تلك الزينة إلا لمن استثنوا في الآية من الأزواج وغيرهم.
فهؤلاء القواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحا- ليس عليهن حرج في أن يتخففن من ثيابهن، في جميع الأوقات، مع المحارم، وغير المحارم.
والمراد من ثيابهن، الثياب التي يراد منها ستر ما وراءها من زينة.
كغطاء الرأس، والخمار وغيرهما.. لا الثياب التي تستر العورات من المرأة.
وفى قوله تعالى: {غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ} قيد للإذن برفع الحرج عنهن في وضع ثيابهن، وذلك بألا يكون غرضهن من وضع هذه الثياب إبداء زينتهن، والتعرض بعرضها للأعين.. فهذا ينافى الوصف الذي وصفن به، وهو قوله تعالى: {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحًا} لأن تبرجهن بالزينة، وعرض أنفسهن بها، ينقض هذا الوصف.
وقوله تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}.. أي وإن يتحفظن، ويدعن التخفف، خير لهن.
فذلك التعفف وعدم التبرج هو من طبيعة المرأة الحرة، أيا كانت السنّ التي بلغتها.. ثم هو من زينة المرأة المسلمة، ومن أدبها الذي تعيش به في المجتمع الإسلامى! أما هذا التخفيف فهو رخصة، من اللّه، للتخفيف والرحمة، تضعها المرأة في يدها، وتستعملها عند الضرورة، بعقل، وحكمة، ودين.
واللّه سميع عليم.. اهـ.

.قال الصابوني في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ}.
الاستئذان في أوقات الخلوة:

.التحليل اللفظي:

{لِيَسْتَأْذِنكُمُ}: اللام لام الأمر، واستأذن طلب الإذن، لأن السين والتاء للطلب مثل استنصر طلب النُصرة، واستغفر طلب المغفرة، والاستئذان المذكور في الآية يراد منه الإعلام بالحضور، والسماح للمستأذن بالدخول. والمعنى: ليستأذنْكم في الدخول عليكم عبيدكم وإماؤكم، والصغار من الأطفال.
{الحلم}: بضم اللام الاحتلام ومعناه: الرؤيا في النوم، والحلْم بكسر الحاء الأناة والعقل، تقول: حلُم الرجل بالضم إذا صار حليمًا.
وفي القاموس: الحُلْم بالضم وبضمتين الرؤيا جمعه أحلام، وحلم به رأى له رؤيا أو رآه في النوم، والحُلْم بالضم والاحتلام: الجماع في النوم والاسم منه الحُلُم كعنق.
وقال الراغب: الحلم زمان البلوغ سمي الحلم لكون صاحبه جديرًا بالحِلم أي الأناة وضبط النفس عن هيجان الغضب. والصحيح أن الحلم هنا بمعنى الجماع في النوم وهو الاحتلام المعروف، وأن الكلام كناية عن البلوغ والإدراك، يقال: بلغ الصبي الحلم أي أصبح في سن البلوغ والتكليف.
{عورات}: جمع عورة ومعناها الخلل وفي الصحاح: أعور الفارس إذا بدا فيه موضع خلل للضرب: وأعور المكان إذا اختل حاله وبدا فيه خلل يخاف منه العدو، ومنه قوله تعالى: {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} [الأحزاب: 13] والأعور المختل العين فسمى الله تعالى كل واحدة من تلك الأحوال عورة لأن الناس يختل حفظهم وتسترهم فيها.
وعورة الإنسان سوأته سميت عورة لأنها من العار وذلك لما يلحق في ظهورها من المذمة والعار.
قال القرطبي: وعورات جمع عورة وبابه في التصحيح أن يجيء على فعَلات بفتح العين كجَفنة وَجَفَنات ونحو ذلك وسكنوا العين في المعتل كبيضة وبيضات لأن فتحة داع إلى اعتلاله فلم يفتح لذلك.
{العشاء}: المراد بها العشاء الأخيرة والعرب تسميها العَتَمة وفي حديث مسلم «لا تغلبنّكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا إنها العشاء وهم يُعْتمون بالإبل» والمغرب تسمى العشاء الأولى وفي الحديث: فصلاها يعني العصر بين العشاءين المغرب والعشاء.